فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجواب عن السؤال الثاني: أنه إذا جوز الإنسان حصول الكذب على الله تعالى فحينئذ لا يحصل من الوعد رغبة، ولا من الوعيد رهبة، لأن السامع يجوز كونه كذبًا.
والجواب عن السؤال الثالث: أن العبد ما دامت حياته في الدنيا فهو كالأجير المشتغل بالعمل.
والأجير حال اشتغاله بالعمل لا يجوز دفع الأجرة بكمالها إليه، لأنه إذا أخذها فإنه لا يجتهد في العمل.
وأما إذا كان محل أخذ الأجرة هو الدار الآخرة كان الاجتهاد في العمل أشد وأكمل، وأيضًا نرى في هذه الدنيا أن أزهد الناس وأعلمهم مبتلى بأنواع الغموم والهموم والأحزان، وأجهلهم وأفسقهم في اللذات والمسرات، فعلمنا أن دار الجزاء يمتنع أن تكون هذه الدار فلابد من دار أخرى، ومن حياة أخرى، ليحصل فيها الجزاء.
الحجة الثانية: أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن وبين المسيء، وأن لا يجعل من كفر به، أو جحده بمنزلة من أطاعه، ولما وجب إظهار هذه التفرقة فحصول هذه التفرقة إما أن يكون في دار الدنيا، أو في دار الآخرة، والأول باطل.
لأنا نرى الكفار والفساق في الدنيا في أعظم الراحات، ونرى العلماء والزهاد بالضد منه، ولهذا المعنى قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] فثبت أنه لابد بعد هذه الدار من دار أخرى، وهو المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} وهو المراد أيضًا بقوله تعالى في سورة طه: {إِنَّ الساعة ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} [طه: 15] وبقوله تعالى في سورة ص: {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين في الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 28].
فإن قيل: أما أنكرتم أن يقال إنه تعالى لا يفصل بين المحسن وبين المسيء في الثواب والعقاب كما لم يفصل بينهما في حسن الصورة وفي كثرة المال؟
والجواب: أن هذا الذي ذكرته مما يقوي دليلنا، فإنه ثبت في صريح العقل وجوب التفرقة، ودل الحس على أنه لم تحصل هذه التفرقة في الدنيا، بل كان الأمر على الضد منه، فإنا نرى العالم والزاهد في أشد البلاء، ونرى الكافر والفاسق في أعظم النعم.
فعلمنا أنه لابد من دار أخرى يظهر فيها هذا التفاوت، وأيضًا لا يبعد أن يقال إنه تعالى علم أن هذا الزاهد العابد لو أعطاه ما دفع إلى الكافر الفاسق لطغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، وأن ذلك الكافر الفاسق لو زاد عليه في التضييق لزاد في الشر وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ في الارض} [الشورى: 27].
الحجة الثالثة: أنه تعالى كلف عبيده بالعبودية فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلابد وأن يجعله فارغ الباب منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تلك التكاليف، والناس جبلوا على طلب اللذات وتحصيل الراحات لأنفسهم، فلو لم يكن لهم زاجر من خوف المعاد لكثر الهرج والمرج ولعظمت الفتن، وحينئذ لا يتفرغ المكلف للاشتغال بأداء العبادات.
فوجب القطع بحصول دار الثواب والعقاب لتنتظم أحوال العالم حتى يقدر المكلف على الاشتغال بأداء العبودية.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال إنه يكفي في بقاء نظام العالم مهابة الملوك وسياساتهم؟ وأيضًا فالأوباش يعلمون أنهم لو حكموا بحسن الهرج والمرج.
لانقلب الأمر عليهم ولقدر غيرهم على قتلهم، وأخذ أموالهم، فلهذا المعنى يحترزون عن إثارة الفتن.
والجواب: أن مجرد مهابة السلاطين لا تكفي في ذلك، وذلك لأن السلطان إما أن يكون قد بلغ في القدرة والقوة إلى حيث لا يخاف من الرعية، وإما أن يكون خائفًا منهم، فإن كان لا يخاف الرعية مع أنه لا خوف له من المعاد، فحينئذ يقدم على الظلم والإيذاء على أقبح الوجوه، لأن الداعية النفسانية قائمة، ولا رادع له في الدنيا ولا في الآخرة، وأما إن كان يخاف الرعية فحينئذ الرعية لا يخافون منه خوفًا شديدًا، فلا يصير ذلك رادعًا لهم عن القبائح والظلم.
فثبت أن نظام العالم لا يتم ولا يكمل إلا بالرغبة في المعاد والرهبة عنه.
الحجة الرابعة: أن السلطان القاهر إذا كان له جمع من العبيد، وكان بعضهم أقوياء وبعضهم ضعفاء، وجب على ذلك السلطان إن كان رحيمًا ناظرًا مشفقًا عليهم أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القادر القوي، فإن لم يفعل ذلك كان راضيًا بذلك الظلم، والرضا بالظلم لا يليق بالرحيم الناظر المحسن.
إذا ثبت هذا فنقول: إنه سبحانه سلطان قاهر قادر حكيم منزه عن الظلم والعبث.
فوجب أن ينتصف لعبيده المظلومين من عبيده الظالمين، وهذا الانتصاف لم يحصل في هذه الدار، لأن المظلوم قد يبقى في غاية الذلة والمهانة، والظالم يبقى في غاية العزة والقدرة، فلابد من دار أخرى يظهر فيها هذا العدل وهذا الإنصاف، وهذه الحجة يصلح جعلها تفسيرًا لهذه الآية التي نحن في تفسيرها.
فإن قالوا: إنه تعالى لما أقدر الظالم على الظلم في هذه الدار، وما أعجزه عنه، دل على كونه راضيًا بذلك الظلم.
قلنا: الإقدار على الظلم عين الإقدار على العدل والطاعة، فلو لم يقدره تعالى على الظلم لكان قد أعجزه عن فعل الخيرات والطاعات، وذلك لا يليق بالحكيم، فوجب في العقل إقداره على الظلم والعدل، ثم إنه تعالى ينتقم للمظلوم من الظالم.
الحجة الخامسة: أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق كل من فيه من الناس فإما أن يقال: إنه تعالى خلقهم لا لمنفعة ولا لمصلحة، أو يقال: إنه تعالى خلقهم لمصلحة ومنفعة.
والأول: يليق بالرحيم الكريم.
والثاني: وهو أن يقال: إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير، فذلك الخير والمصلحة إما أن يحصل في هذه الدنيا أو في دار أخرى، والأول باطل من وجهين: الأول: أن لذات هذا العالم جسمانية، واللذات الجسمانية لا حقيقية لها إلا إزالة الألم، وإزالة الألم أمر عدمي، وهذا العدم كان حاصلًا حال كون كل واحد من الخلائق معدومًا، وحينئذ لا يبقى للتخليق فائدة.
والثاني: أن لذات هذا العالم ممزوجة بالآلام والمحن، بل الدنيا طافحة بالشرور والآفات والمحن والبليات، واللذة فيها كالقطرة في البحر.
فعلمنا أن الدار التي يصل فيها الخلق إلى تلك الراحات المقصودة دار أخرى سوى دار الدنيا.
فإن قالوا: أليس أنه تعالى يؤلم أهل النار بأشد العذاب لا لأجل مصلحة وحكمة؟ فلم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى يخلق الخلق في هذا العالم لا لمصلحة ولا لحكمة.
قلنا: الفرق أن ذلك الضرر ضرر مستحق على أعمالهم الخبيثة.
وأما الضرر الحاصل في الدنيا فغير مستحق، فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة ومنافع جابرة لتلك المضار السالفة، وإلا لزم أن يكون الفاعل شريرًا مؤذيًا، وذلك ينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
الحجة السادسة: لو لم يحصل للإنسان معاد لكان الإنسان أخس من جميع الحيوانات في المنزلة والشرف.
واللازم باطل، فالملزوم مثله.
بيان الملازمة أن مضار الإنسان في الدنيا أكثر من مضار جميع الحيوانات، فإن سائر الحيوانات قبل وقوعها في الآلام والأسقام تكون فارغة البال طيبة النفس، لأنه ليس لها فكر وتأمل.
أما الإنسان فإنه بسبب ما يحصل له من العقل يتفكر أبدًا في الأحوال الماضية والأحوال المستقبلة، فيحصل له بسبب أكثر الأحوال الماضية أنواع من الحزن والأسف، ويحصل له بسبب أكثر الأحوال الآتية أنواع من الخوف، لأنه لا يدري أنه كيف تحدث الأحوال.
فثبت أن حصول العقل للإنسان سبب لحصول المضار العظيمة في الدنيا والآلام النفسانية الشديدة القوية.
وأما اللذات الجسمانية فهي مشتركة بين الناس وبين سائر الحيوانات، لأن السرقين في مذاق الجعل طيب، كما أن اللوزينج في مذاق الإنسان طيب.
إذا ثبت هذا فنقول: لو لم يحصل للإنسان معاد به تكمل حالته وتظهر سعادته، لوجب أن يكون كمال العقل، سببًا لمزيد الهموم والغموم والأحزان من غير جابر يجبر، ومعلوم أن كل ما كان كذلك فإنه يكون سببًا لمزيد الخسة والدناءة والشقاء والتعب الخالية عن المنفعة.
فثبت أنه لولا حصول السعادة الأخروية لكان الإنسان أخس الحيوانات حتى الخنافس والديدان، ولما كان ذلك باطلًا قطعًا، علمنا أنه لابد من الدار الآخرة، وأن الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا، وأنه بعقله يكتسب موجبات السعادات الأخروية.
فلهذا السبب كان العقل شريفًا.
الحجة السابعة: أنه تعالى قادر على إيصال النعم إلى عبيده على وجهين: أحدهما: أن تكون النعم مشوبة بالآفات والأحزان.
والثاني: أن تكون خالصة عنها، فلما أنعم الله تعالى في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علينا بالمرتبة الثانية في دار أخرى، إظهارًا لكمال القدرة والرحمة والحكمة، فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن المذنبين، ويزيل الغموم والهموم والشهوات والشبهات.
والذي يقوي ذلك، ويقرر هذا الكلام أن الإنسان حين كان جنينًا في بطن أمه، كان في أضيق المواضع وأشدها عفونة وفسادًا، ثم إذا خرج من بطن أمه كانت الحالة الثانية أطيب وأشرف من الحالة الأولى، ثم إنه عند ذلك يوضع في المهد ويشد شدًا وثيقًا، ثم بعد حين يخرج من المهد ويعدو يمينًا وشمالًا، وينتقل من تناول اللبن إلى تناول الأطعمة الطيبة، وهذه الحالة الثالثة لا شك أنها أطيب من الحالة الثانية، ثم إنه بعد حين يصير أميرًا نافذ الحكم على الخلق، أو عالمًا مشرفًا على حقائق الأشياء، ولا شك أن هذه الحالة الرابعة أطيب وأشرف من الحالة الثالثة.
وإذا ثبت هذا وجب بحكم هذا الاستقراء أن يقال: الحالة الحاصلة بعد الموت تكون أشرف وأعلى وأبهج من اللذات الجسدانية والخيرات الجسمانية.
الحجة الثامنة: طريقة الاحتياط، فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له، فإن كان هذا المذهب حقًا، فقد نجونا وهلك المنكر، وإن كان باطلًا، لم يضرنا هذا الاعتقاد.
غاية ما في الباب أن يقال إنه تفوتنا هذه اللذات الجسمانية إلا أنا نقول يجب على العاقل أن لا يبالي بفوتها لأمرين أحدهما: أنها في غاية الخساسة لأنها مشترك فيها بين الخنافس والديدان والكلاب.
والثاني: أنها منقطعة سريعة الزوال.
فثبت أن الاحتياط ليس إلا في الإيمان بالمعاد، ولهذا قال الشاعر:
قال المنجم والطبيب كلاهما ** لا تحشر الأموات قلت إليكما

إن صح لكما فلست بخاسر ** أو صح قولي فالخسار عليكما

الحجة التاسعة: اعلم أن الحيوان ما دام يكون حيوانًا، فإنه إن قطع منه شيء مثل ظفر أو ظلف أو شعر، فإنه يعود ذلك الشيء، وإن جرح اندمل، ويكون الدم جاريًا في عروقه وأعضائه جريان الماء في عروق الشجر وأغصانه، ثم إذا مات انقلبت هذه الأحوال، فإن قطع منه شيء من شعره أو ظفره لم ينبت، وإن جرح لم يندمل ولم يلتحم، ورأيت الدم يتجمد في عروقه، ثم بالآخرة يؤول حاله إلى الفساد والانحلال.
ثم إنا لما نظرنا إلى الأرض وجدناها شبيهة بهذه الصفة، فإنا نراها في زمان الربيع تفور عيونها وتربو تلالها وينجذب الماء إلى أغصان الأشجار وعروقها، والماء في الأرض بمنزلة الدم الجاري في بدن الحيوان، ثم تخرج أزهارها وأنوارها وثمارها كما قال تعالى: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] وإن جذ من نباتها شيء أخلف ونبت مكانه آخر مثله، وإن قطع غصن من أغصان الأشجار أخلف، وإن جرح التأم، وهذه الأحوال شبيهة بالأحوال التي ذكرناها للحيوان.
ثم إذا جاء الشتاء واشتد البرد غارت عيونها وجفت رطوبتها وفسدت بقولها، ولو قطعنا غصنًا من شجرة ما أخلف، فكانت هذه الأحوال شبيهة بالموت بعد الحياة.
ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة، فإذا عقلنا هذه المعاني في إحدى الصورتين، فلم لا نعقل مثله في الصورة الثانية، بل نقول لا شك أن الإنسان أشرف من سائر الحيوانات، والحيوان أشرف من النبات، وهو أشرف من الجمادات.
فإذا حصلت هذه الأحوال في الأرض، فلم لا يجوز حصولها في الإنسان؟
فإن قالوا: إن أجساد الحيوان تتفرق وتتمزق بالموت، وأما الأرض فليست كذلك.
فالجواب: أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة، وهو جوهر باق، أو إن لم نقل بهذا المذهب فهو عبارة عن أجزاء أصلية باقية من أول وقت تكون الجنين إلى آخر العمر، وهي جارية في البدن، وتلك الأجزاء باقية، فزال هذا السؤال.
الحجة العاشرة: لا شك أن بدن الحيوان إنما تولد من النطفة، وهذه النطفة إنما اجتمعت من جميع البدن، بدليل أن عند انفصال النطفة يحصل الضعف والفتور في جميع البدن، ثم إن مادة تلك النطفة إنما تولدت من الأغذية المأكولة، وتلك الأغذية إنما تولدت من الأجزاء العنصرية وتلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، واتفق لها أن اجتمعت، فتولد منها حيوان أو نبات فأكله إنسان، فتولد منه دم فتوزع ذلك الدم على أعضائه، فتولد منها أجزاء لطيفة.
ثم عند استيلاء الشهوة سال من تلك الرطوبات مقدار معين، وهو النطفة، فانصب إلى فم الرحم، فتولد منه هذا الإنسان، فثبت أن الأجزاء التي منها تولد بدن الإنسان كانت متفرقة في البحار والجبال وأوج الهواء، ثم إنها اجتمعت بالطريق المذكور، فتولد منها هذا البدن، فإذا مات تفرقت تلك الأجزاء على مثال التفرق الأول.